كيف سيطر الجيش الإسرائيلي على مواقع التواصل الاجتماعي؟
أحدثت ثوراتُ الربيع العربي طفرات سواء على مستوى الفكر أو الممارسة، ولعل أحد أبرز هذه الطفرات هي الآليات التي قامت عليها هذه الثورات، وفي مقدمتها بلا شك الفضاء الرقمي، واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي، والتي جعلت العالم يُدرك أن وسائل التواصل تلك ليست فقط "اجتماعية"، ولكن قد تكون لها أدوار سياسية هائلة.
ولذلك، فقد انتشرت في الفترة التي أعقبت اندلاع الثورات العربية حالة من "اليوتوبية الرقمية" Digital Utopianism، والتي جعلت البعض يعتقد أن الفضاء الرقمي قادر بشكل كبير على إدماج العامة في السياسة، وتفعيل أدوار الشعوب، وبناء أنظمة ديمقراطية حقيقية، ليس فقط في الدول العربية، ولكن في العالم كله؛ إلا أنه في المقابل تم استخدام نفس هذه الوسائل كآليات من قبل أنظمة قمعية وسلطوية، واستغلالها في تزييف الحقائق والوعي.
وفي هذا السياق، قدم الباحثان Adi Kuntsman (محاضِر المعلومات والاتصالات بجامعة مانشستر الكبرى)، وRebecca L. Stein (أستاذ الأنثروبولوجي المشارك بجامعة دوك)، كتابهما بعنوان "العسكرة الرقمية: هيمنة إسرائيل على مواقع التواصل الاجتماعي" والذي تم نشره بواسطة جامعة ستانفورد في أبريل 2015، ويوضح الكتاب كيف استطاعت إسرائيل توظيف مواقع التواصل الاجتماعي لخدمة أهدافها العسكرية في إطار صراعها الوجودي مع الفلسطينيين.
مفهوم العسكرية الرقمية:
يقوم هذا المُؤلّف على مفهوم العسكرية الرقمية Digital Militarism، وهو مفهوم يشير إلى كيفية استخدام تكنولوجيا وآليات وسائل التواصل الاجتماعي من أجل أغراض "عسكرية"، سواء من قبل الدولة، أو بواسطة المستخدمين العاديين. ويُشير الكتاب إلى أن الفضاء الرقمي استُخدِم بكثافة من قبل الدولة في إعلان الحروب، وإصدار بيانات، ونفي اتهامات، ومن قبل المواطنين الإسرائيليين في الدفاع عن الممارسات العنيفة في الأراضي المحتلة، ومحاولة استبقائها، وكذلك من قبل الجنود الإسرائيليين في نشر صور ومقاطع حية من ميدان المعركة.
وعلى الرغم من أنّ هذه الظاهرة لم تكن حاضرة في سياسات الاحتلال من قبل بمثل هذه الكثافة، فإنها زادت واتسعت بشكل هائل خلال الفترة التي شهدت اندلاع الثورات العربية. إلا أن معدل استخدامها قد زاد بشكل كبير خلال الاعتداءات الإسرائيلية على قطاع غزة في عامي 2012 و2014. ويشير الباحثان إلى أن هذا الكتاب يُعد بمثابة توثيق للممارسات العنيفة للاحتلال الإسرائيلي في الأراضي المحتلة، وآليات تأييد هذه الممارسات من قبل المواطنين، والتي تم رصدها على وسائل التواصل الاجتماعي.
التطبيقات العسكرية للتواصل الاجتماعي:
يذكر الباحثان أن "عسكرة" الفضاء الرقمي تجلّت بشكل واضح خلال العدوان الإسرائيلي على غزة عام 2012، فالجنود الإسرائيليون ذهبوا للحرب وهم يحملون هواتف ذكية قاموا من خلالها بنشر العديد من الصور الحية عبر فيسبوك وإنستجرام وتويتر، والمتحدثون العسكريون الرسميون -سواء من إسرائيل أو حماس- قاموا باستخدام مواقع التواصل الاجتماعي لإعلان تصريحات وبيانات، ووضع مقاطع من الحرب على يوتيوب. بالإضافة إلى استخدام مئات الآلاف من المواطنين الإسرائيليين والفلسطينيين لهذه المواقع في متابعة ما يجري في الحرب، وإعلان مواقفهم منها.
وهو ما جعل العديد من وسائل الإعلام العالمية تُطلق على هذه الحرب "حرب وسائل التواصل الاجتماعي الأولى"، وقد اقترن هذا باعتبار إسرائيل الدولة الأكثر استخدامًا للشبكات الاجتماعية، وذلك في عام 2011، وكان إنستجرام له نصيب كبير من تلك الصور التي قام الجنود الإسرائيليون بنشرها خلال انتظارهم بدء التدخل البري في قطاع غزة. ويقوم الكتاب بعرض مجموعة من هذه الصور التي قام جنود إسرائيليون بالتقاطها في هذه الأثناء، والتي تُوضح كما جاء في الكتاب نصًّا "أنهم يظهرون بزي عسكري خالٍ من آثار التراب والدماء".
تطور السيطرة العسكرية على المعلومات:
كذلك قام الباحثان بعرض مراحل تطور عسكرة الفضاء الرقمي، من خلال ما يلي:
1- الانتفاضة الفلسطينية 2000: كانت البداية في منتصف عام 2000 من خلال القرصنة الإلكترونية، وقيام بعض النشطاء الإسرائيليين باختراق مواقع حزب الله وحركة حماس، ورد بعض المجموعات الفلسطينية باختراق مواقع تابعة للحكومة الإسرائيلية.
2- حرب لبنان 2006: تطور الأمر خلال حرب لبنان 2006 باستخدام نشطاء إسرائيليين ولبنانيين لخدمة Google Earth للتعرف على مناطق الهجوم وحجم الدمار، وكانت هذه الحرب من الأمور التي جعلت إسرائيل تنتوي استخدام وسائل التواصل الاجتماعي بشكل أكثر جدية لأغراض "عسكرية".
3- أسطول الحرية 2010: حدثت مواجهة إلكترونية بين النشطاء المشاركين في أسطول الحرية، والذين قاموا ببث مباشر من على متن سفن الأسطول، والجيش الإسرائيلي الذي قام بإنشاء قناة على يوتيوب تبث مقاطع تثبت مزاعمه، وقد صنفت ثلاثة من هذه المقاطع ضمن الأكثر مشاهدة على يوتيوب، وبرغم ذلك فقد أعلن الكثير من المعلقين هزيمة إسرائيل "إلكترونيًّا" في هذه المواجهة.
4- الحرب على غزة عام 2012: قررت إسرائيل أن تعلن الحرب من خلال تدوينة على موقع تويتر، في سابقة هي الأولى من نوعها، في حين جاءت التدوينة الثانية لتعلن اغتيال القائد العسكري لحماس أحمد الجعبري. وبنفس الأسلوب، اختارت حماس أن يأتي ردها من خلال تدوينة على الموقع نفسه تهدد فيها الجنود الإسرائيليين في حال ما تقدموا بداخل القطاع. وهذا هو ما دفع الصحافة العالمية للحديث عن ظهور "ساحة حرب جديدة على وسائل التواصل الاجتماعي" و"حرب تويتر"، وكذلك وصفت هذه الحرب بـ"أول إعلان للحرب على موقع تويتر" و"أول حرب على وسائل التواصل الاجتماعي بين إسرائيل وحماس".
آليات الإدانة غير التقليدية:
ويعرض الكتاب لقضية أخرى هامة ألا وهي الفضائح التي تنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي، وتصبح بمثابة دلائل إدانة لإسرائيل. وفي هذا السياق يشير إلى واقعة انتشار صور لمجندة سابقة في الجيش الإسرائيلي تدعى Eden Abergil عام 2010، وهي تقوم بإيحاءات غير أخلاقية، ومن ورائها ثلاثة شيوخ فلسطينيين معتقلين يجلسون على قطع خرسانية وفي أيديهم أغلال وأعينهم مغطاة. وقامت بنشرها على حسابها الخاص على فيسبوك.
وقد أثارت هذه الواقعةُ جدلا كبيرًا على المستوى العالمي، خاصة أنها أتت مع حالة الرفض والاستنكار العالمي للممارسات الإسرائيلية بسبب حادثة أسطول الحرية، بالإضافة لاتهام لجنة تقصي حقائق تابعة للأمم المتحدة لإسرائيل بأنها ارتكبت جرائم حرب في غزة عام 2008.
ولم تكن هذه هي الفضيحة الأولى للممارسات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة، لكنها كانت المرة الأولى التي يلعب فيها الفضاء الإلكتروني مثل هذا الدور في فضح ممارسات الاحتلال، وتعريض صورة إسرائيل أمام العالم للخطر.
وعلى المستوى الفلسطيني، تم استغلال هذه الصور بشكل كبير لمخاطبة العالم بما يفعله الاحتلال الإسرائيلي من امتهان كرامة وآدمية الفلسطينيين، ووصل الأمر إلى مقارنة هذه الصور بصور أخرى تم التقاطها في سجن أبو غريب في العراق. أما على المستوى الإسرائيلي، فقد أحدث هذا الأمر جدلا كبيرًا بين اليساريين الذين هاجموا سياسات الاحتلال، وبين شرائح أخرى كبيرة أيدت ما يحدث، بل وطالبت بالاستمرار فيه، ونشر المزيد من الصور.
وفي هذا السياق، يبدو أن الفضاء الإلكتروني أداة لفضح ممارسات الاحتلال بشكل لم يسبق أن فعلته أدوات أخرى، وهو ما جعل إسرائيل تتناول هذا الأمر بقدر كبير من الجدية، وتقرر مناقشة الخصوصية على هذه المواقع، وكذلك إعادة النظر في حمل المجندين لهواتف ذكية وكاميرات أثناء تنفيذ مهام الجيش الإسرائيلي.
تداعيات عسكرة التواصل الاجتماعي:
ونتيجة لهذا التأثير الطاغي الذي اكتسبه الفضاء الرقمي أثناء فترات الحروب والتوتر، ظهرت سياسات جديدة للتشكيك في المواد التي تُنشر على هذه الوسائل الرقمية Digital Suspicion، ومفادها الادعاء من قبل كل طرف بأنّ ما ينشره الطرف الآخر من صور ومقاطع تدينه عبر الفضاء الرقمي هي غير حقيقية ومفبركة.
وقد اعتمدت إسرائيل على هذا حتى قبل ظهور وسائل التواصل الاجتماعي منذ بداية الألفية الجديدة بادعائها أن المقطع الذي يُظهر قتل القوات الإسرائيلية للطفل محمد الدرة (12 سنة) خلال الانتفاضة الثانية هو مفبرك، ولا أساس له من الصحة.
وامتد ذلك حتى وصل في العدوان الإسرائيلي على غزة عام 2012 لواحدة من أهم الآليات التي اعتمدت عليها إسرائيل. وقد قامت إسرائيل بمحاولة إثبات فبركة ما يُنشر على أنه انتهاك ارتكبته إسرائيل، وذلك من خلال الادعاء بأنّ أرقام الضحايا الفلسطينيين مبالغ فيها، وأنّ صور الأطفال الفلسطينيين المقتولين تم التقاطها في مناطق أخرى، ويتم الترويج لها على أنها في غزة، أو الادعاء بأن من قتل هؤلاء الضحايا حركة حماس.
ولم يقتصر الأمر على الأجهزة الرسمية فقط، ولكن قام العديد من المواطنين بإنشاء مجموعات على فيسبوك تقوم بالتمحيص في كل الصور التي تنشر ومقارنتها بصور أخرى التقطت في سنوات سابقة وفي أماكن أخرى ونشر ذلك بكثافة للدفاع عن صورة إسرائيل أمام العالم. ولم يقتصر الأمر على هذا فقط، بل امتد لاستحضار صور ومقاطع أخذت في الماضي، وإعادة إنتاجها على أنها مفبركة.
فيما حاول اليمين الإسرائيلي استثمار هذا في إثبات كذب الادعاءات الفلسطينية الكبرى، مثل حقهم في أرض فلسطين، وارتكاب إسرائيل لمجازر كبيرة في الماضي ضدهم، وتهجير الفلسطينيين عام 1948 حتى تخلي مسئوليتها من قضايا اللاجئين.
وأخيرًا، فإن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي كما أصبح شائعًا وأساسيًّا في حياة المدنيين، فإنّه صار شيئًا عاديًّا بين الجنود الإسرائيليين، وصار من المعتاد أن تنتشر صور ومقاطع لهم بالزي العسكري وهم يحملون أسلحتهم. كذلك وبرغم تباين وتنوع المواد التي أثارت جدلا على مواقع التواصل، فإن ما يجمعها هو أنها تم التقاطها بواسطة الجناة أنفسهم. وحينما أثارت جدلا تم حذفها ثم أعيد نشرها فيما بعد بأسماء أخرى، كما أنها توضح استهداف الفلسطينيين بشكل مستمر، وقد تم أخذها من خلال هواتفهم الذكية التي صارت جزءًا لا يتجزأ من العتاد العسكري للجنود الإسرائيليين، وهو ما يُظهر أنّ الاحتلال الإسرائيلي في زمن وسائل التواصل الاجتماعي قد اكتسب أبعادًا جديدة، يمكن إذا ما تم استغلالها بشكل جيد أن تكون أداة فعالة للغاية في فضح ممارسات الجيش الإسرائيلي في الأراضي المحتلة.
عرض: محمد عزت رحيم - معيد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة.
ولذلك، فقد انتشرت في الفترة التي أعقبت اندلاع الثورات العربية حالة من "اليوتوبية الرقمية" Digital Utopianism، والتي جعلت البعض يعتقد أن الفضاء الرقمي قادر بشكل كبير على إدماج العامة في السياسة، وتفعيل أدوار الشعوب، وبناء أنظمة ديمقراطية حقيقية، ليس فقط في الدول العربية، ولكن في العالم كله؛ إلا أنه في المقابل تم استخدام نفس هذه الوسائل كآليات من قبل أنظمة قمعية وسلطوية، واستغلالها في تزييف الحقائق والوعي.
وفي هذا السياق، قدم الباحثان Adi Kuntsman (محاضِر المعلومات والاتصالات بجامعة مانشستر الكبرى)، وRebecca L. Stein (أستاذ الأنثروبولوجي المشارك بجامعة دوك)، كتابهما بعنوان "العسكرة الرقمية: هيمنة إسرائيل على مواقع التواصل الاجتماعي" والذي تم نشره بواسطة جامعة ستانفورد في أبريل 2015، ويوضح الكتاب كيف استطاعت إسرائيل توظيف مواقع التواصل الاجتماعي لخدمة أهدافها العسكرية في إطار صراعها الوجودي مع الفلسطينيين.
مفهوم العسكرية الرقمية:
يقوم هذا المُؤلّف على مفهوم العسكرية الرقمية Digital Militarism، وهو مفهوم يشير إلى كيفية استخدام تكنولوجيا وآليات وسائل التواصل الاجتماعي من أجل أغراض "عسكرية"، سواء من قبل الدولة، أو بواسطة المستخدمين العاديين. ويُشير الكتاب إلى أن الفضاء الرقمي استُخدِم بكثافة من قبل الدولة في إعلان الحروب، وإصدار بيانات، ونفي اتهامات، ومن قبل المواطنين الإسرائيليين في الدفاع عن الممارسات العنيفة في الأراضي المحتلة، ومحاولة استبقائها، وكذلك من قبل الجنود الإسرائيليين في نشر صور ومقاطع حية من ميدان المعركة.
وعلى الرغم من أنّ هذه الظاهرة لم تكن حاضرة في سياسات الاحتلال من قبل بمثل هذه الكثافة، فإنها زادت واتسعت بشكل هائل خلال الفترة التي شهدت اندلاع الثورات العربية. إلا أن معدل استخدامها قد زاد بشكل كبير خلال الاعتداءات الإسرائيلية على قطاع غزة في عامي 2012 و2014. ويشير الباحثان إلى أن هذا الكتاب يُعد بمثابة توثيق للممارسات العنيفة للاحتلال الإسرائيلي في الأراضي المحتلة، وآليات تأييد هذه الممارسات من قبل المواطنين، والتي تم رصدها على وسائل التواصل الاجتماعي.
التطبيقات العسكرية للتواصل الاجتماعي:
يذكر الباحثان أن "عسكرة" الفضاء الرقمي تجلّت بشكل واضح خلال العدوان الإسرائيلي على غزة عام 2012، فالجنود الإسرائيليون ذهبوا للحرب وهم يحملون هواتف ذكية قاموا من خلالها بنشر العديد من الصور الحية عبر فيسبوك وإنستجرام وتويتر، والمتحدثون العسكريون الرسميون -سواء من إسرائيل أو حماس- قاموا باستخدام مواقع التواصل الاجتماعي لإعلان تصريحات وبيانات، ووضع مقاطع من الحرب على يوتيوب. بالإضافة إلى استخدام مئات الآلاف من المواطنين الإسرائيليين والفلسطينيين لهذه المواقع في متابعة ما يجري في الحرب، وإعلان مواقفهم منها.
وهو ما جعل العديد من وسائل الإعلام العالمية تُطلق على هذه الحرب "حرب وسائل التواصل الاجتماعي الأولى"، وقد اقترن هذا باعتبار إسرائيل الدولة الأكثر استخدامًا للشبكات الاجتماعية، وذلك في عام 2011، وكان إنستجرام له نصيب كبير من تلك الصور التي قام الجنود الإسرائيليون بنشرها خلال انتظارهم بدء التدخل البري في قطاع غزة. ويقوم الكتاب بعرض مجموعة من هذه الصور التي قام جنود إسرائيليون بالتقاطها في هذه الأثناء، والتي تُوضح كما جاء في الكتاب نصًّا "أنهم يظهرون بزي عسكري خالٍ من آثار التراب والدماء".
تطور السيطرة العسكرية على المعلومات:
كذلك قام الباحثان بعرض مراحل تطور عسكرة الفضاء الرقمي، من خلال ما يلي:
1- الانتفاضة الفلسطينية 2000: كانت البداية في منتصف عام 2000 من خلال القرصنة الإلكترونية، وقيام بعض النشطاء الإسرائيليين باختراق مواقع حزب الله وحركة حماس، ورد بعض المجموعات الفلسطينية باختراق مواقع تابعة للحكومة الإسرائيلية.
2- حرب لبنان 2006: تطور الأمر خلال حرب لبنان 2006 باستخدام نشطاء إسرائيليين ولبنانيين لخدمة Google Earth للتعرف على مناطق الهجوم وحجم الدمار، وكانت هذه الحرب من الأمور التي جعلت إسرائيل تنتوي استخدام وسائل التواصل الاجتماعي بشكل أكثر جدية لأغراض "عسكرية".
3- أسطول الحرية 2010: حدثت مواجهة إلكترونية بين النشطاء المشاركين في أسطول الحرية، والذين قاموا ببث مباشر من على متن سفن الأسطول، والجيش الإسرائيلي الذي قام بإنشاء قناة على يوتيوب تبث مقاطع تثبت مزاعمه، وقد صنفت ثلاثة من هذه المقاطع ضمن الأكثر مشاهدة على يوتيوب، وبرغم ذلك فقد أعلن الكثير من المعلقين هزيمة إسرائيل "إلكترونيًّا" في هذه المواجهة.
4- الحرب على غزة عام 2012: قررت إسرائيل أن تعلن الحرب من خلال تدوينة على موقع تويتر، في سابقة هي الأولى من نوعها، في حين جاءت التدوينة الثانية لتعلن اغتيال القائد العسكري لحماس أحمد الجعبري. وبنفس الأسلوب، اختارت حماس أن يأتي ردها من خلال تدوينة على الموقع نفسه تهدد فيها الجنود الإسرائيليين في حال ما تقدموا بداخل القطاع. وهذا هو ما دفع الصحافة العالمية للحديث عن ظهور "ساحة حرب جديدة على وسائل التواصل الاجتماعي" و"حرب تويتر"، وكذلك وصفت هذه الحرب بـ"أول إعلان للحرب على موقع تويتر" و"أول حرب على وسائل التواصل الاجتماعي بين إسرائيل وحماس".
آليات الإدانة غير التقليدية:
ويعرض الكتاب لقضية أخرى هامة ألا وهي الفضائح التي تنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي، وتصبح بمثابة دلائل إدانة لإسرائيل. وفي هذا السياق يشير إلى واقعة انتشار صور لمجندة سابقة في الجيش الإسرائيلي تدعى Eden Abergil عام 2010، وهي تقوم بإيحاءات غير أخلاقية، ومن ورائها ثلاثة شيوخ فلسطينيين معتقلين يجلسون على قطع خرسانية وفي أيديهم أغلال وأعينهم مغطاة. وقامت بنشرها على حسابها الخاص على فيسبوك.
وقد أثارت هذه الواقعةُ جدلا كبيرًا على المستوى العالمي، خاصة أنها أتت مع حالة الرفض والاستنكار العالمي للممارسات الإسرائيلية بسبب حادثة أسطول الحرية، بالإضافة لاتهام لجنة تقصي حقائق تابعة للأمم المتحدة لإسرائيل بأنها ارتكبت جرائم حرب في غزة عام 2008.
ولم تكن هذه هي الفضيحة الأولى للممارسات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة، لكنها كانت المرة الأولى التي يلعب فيها الفضاء الإلكتروني مثل هذا الدور في فضح ممارسات الاحتلال، وتعريض صورة إسرائيل أمام العالم للخطر.
وعلى المستوى الفلسطيني، تم استغلال هذه الصور بشكل كبير لمخاطبة العالم بما يفعله الاحتلال الإسرائيلي من امتهان كرامة وآدمية الفلسطينيين، ووصل الأمر إلى مقارنة هذه الصور بصور أخرى تم التقاطها في سجن أبو غريب في العراق. أما على المستوى الإسرائيلي، فقد أحدث هذا الأمر جدلا كبيرًا بين اليساريين الذين هاجموا سياسات الاحتلال، وبين شرائح أخرى كبيرة أيدت ما يحدث، بل وطالبت بالاستمرار فيه، ونشر المزيد من الصور.
وفي هذا السياق، يبدو أن الفضاء الإلكتروني أداة لفضح ممارسات الاحتلال بشكل لم يسبق أن فعلته أدوات أخرى، وهو ما جعل إسرائيل تتناول هذا الأمر بقدر كبير من الجدية، وتقرر مناقشة الخصوصية على هذه المواقع، وكذلك إعادة النظر في حمل المجندين لهواتف ذكية وكاميرات أثناء تنفيذ مهام الجيش الإسرائيلي.
تداعيات عسكرة التواصل الاجتماعي:
ونتيجة لهذا التأثير الطاغي الذي اكتسبه الفضاء الرقمي أثناء فترات الحروب والتوتر، ظهرت سياسات جديدة للتشكيك في المواد التي تُنشر على هذه الوسائل الرقمية Digital Suspicion، ومفادها الادعاء من قبل كل طرف بأنّ ما ينشره الطرف الآخر من صور ومقاطع تدينه عبر الفضاء الرقمي هي غير حقيقية ومفبركة.
وقد اعتمدت إسرائيل على هذا حتى قبل ظهور وسائل التواصل الاجتماعي منذ بداية الألفية الجديدة بادعائها أن المقطع الذي يُظهر قتل القوات الإسرائيلية للطفل محمد الدرة (12 سنة) خلال الانتفاضة الثانية هو مفبرك، ولا أساس له من الصحة.
وامتد ذلك حتى وصل في العدوان الإسرائيلي على غزة عام 2012 لواحدة من أهم الآليات التي اعتمدت عليها إسرائيل. وقد قامت إسرائيل بمحاولة إثبات فبركة ما يُنشر على أنه انتهاك ارتكبته إسرائيل، وذلك من خلال الادعاء بأنّ أرقام الضحايا الفلسطينيين مبالغ فيها، وأنّ صور الأطفال الفلسطينيين المقتولين تم التقاطها في مناطق أخرى، ويتم الترويج لها على أنها في غزة، أو الادعاء بأن من قتل هؤلاء الضحايا حركة حماس.
ولم يقتصر الأمر على الأجهزة الرسمية فقط، ولكن قام العديد من المواطنين بإنشاء مجموعات على فيسبوك تقوم بالتمحيص في كل الصور التي تنشر ومقارنتها بصور أخرى التقطت في سنوات سابقة وفي أماكن أخرى ونشر ذلك بكثافة للدفاع عن صورة إسرائيل أمام العالم. ولم يقتصر الأمر على هذا فقط، بل امتد لاستحضار صور ومقاطع أخذت في الماضي، وإعادة إنتاجها على أنها مفبركة.
فيما حاول اليمين الإسرائيلي استثمار هذا في إثبات كذب الادعاءات الفلسطينية الكبرى، مثل حقهم في أرض فلسطين، وارتكاب إسرائيل لمجازر كبيرة في الماضي ضدهم، وتهجير الفلسطينيين عام 1948 حتى تخلي مسئوليتها من قضايا اللاجئين.
وأخيرًا، فإن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي كما أصبح شائعًا وأساسيًّا في حياة المدنيين، فإنّه صار شيئًا عاديًّا بين الجنود الإسرائيليين، وصار من المعتاد أن تنتشر صور ومقاطع لهم بالزي العسكري وهم يحملون أسلحتهم. كذلك وبرغم تباين وتنوع المواد التي أثارت جدلا على مواقع التواصل، فإن ما يجمعها هو أنها تم التقاطها بواسطة الجناة أنفسهم. وحينما أثارت جدلا تم حذفها ثم أعيد نشرها فيما بعد بأسماء أخرى، كما أنها توضح استهداف الفلسطينيين بشكل مستمر، وقد تم أخذها من خلال هواتفهم الذكية التي صارت جزءًا لا يتجزأ من العتاد العسكري للجنود الإسرائيليين، وهو ما يُظهر أنّ الاحتلال الإسرائيلي في زمن وسائل التواصل الاجتماعي قد اكتسب أبعادًا جديدة، يمكن إذا ما تم استغلالها بشكل جيد أن تكون أداة فعالة للغاية في فضح ممارسات الجيش الإسرائيلي في الأراضي المحتلة.
عرض: محمد عزت رحيم - معيد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة.