لورانس العرب .. وقصة الخيانة العربية البريطانية
إلى كل من يستمد أخلاقياته ومثالياته من الغرب.. إلى كل موهوم بثقافة الغرب.. إلى كل من تلقفته دعوات الدول الغربية بأنها ملاك الرحمة بين غابات الوحوش.. هذا دليل من التاريخ على خيانة عظمى.. خيانة أمة وتاريخ..
الرجل المريض.. وأحلام الخونة :
من أعظم الأحداث التي مرت بها القرون الوسطى السقوط الأكبر للصليبيين على يد الناصر صلاح الدين الأيوبي في معركة حطين.. ثم سقوط القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية على يد الفاتح محمد العثماني ، وما تبع ذلك من ارتفاع نجم الإمبراطورية العثمانية ولكن! دوام الحال من المحال، فالأسد الهائج أصبح مريضا متهالكًا تكالبت عليه قوى الاستعمار الأجنبي ولتلتقي أحلام الصليبيين بأحلام اليهود في السيطرة على العالم الإسلامي وتمزيق وحدته.
البداية ونقطة الانطلاق :
في جامعة “أكسفورد” , الشاب توماس إدوارد لورانس يقرأ خمس كتب في اليوم الواحد، يتبحر في المعرفة في مجال دراسة القلاع خاصة حصون الحروب الصليبية العسكرية في الشام ومصر، وهو يسارع للقيام بزيارات متكررة إلى قلاع سوريا ثم بيروت وهناك إلتحق بمدرسة تنصير أمريكية لتسهل مهمته الاستشراقية، أي دراسة لغات وآداب وعادات وتقاليد المشرق الإسلامي.. حيث تعلم ثمانين كلمة عربية اعتبرت بداية مشواره في بلاد العرب .. إلى أن أتقن “ لورانس” اللهجات في الجزيرة العربية, وتعرف على مسالكها الوعرة, وعايش العرب في صحراء قاحلة يقاسي شظف العيش كأنه واحد منهم، يلبس الثوب والعقال ويأكل السمن والتمر والأقط، ويستمع إلى حكاياتهم ومغازيهم.
وستأتي لحظة يكون هو الترجمان بين أمراء الحرب من قبائل العرب وبين الجنرال البريطاني “اللمبي”، يخاطبهم بلهجتهم ويذكر لهم أبرز معالم مناطقهم مما يدفع هؤلاء تلقائيًا إلى الإفضاء بالمعلومات من باب الاطمئنان، حقًا لقد طبق “لورانس” حرفيًا مقولة الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “من تعلم لغة قوم أمن شرهم”.
أعجب به العرب إعجابًا كبيرًا، كان كريمًا بينهم . فيعرض عليه رجال القبائل الزواج من بناتهم.. فيرفض.
كل ذلك الكرم منه يخفي ما هو أعظم.. لقد حولته المخابرات البريطانية من طالب آثار إلى موظف خرائط في مكتبها في القاهرة يرسم لها خرائط تفصيلية دقيقة لبلاد العرب كما رآها.
وقد وكلت بريطانيا لـ”لورانس” مهمة أن يتفقد مواقع الأتراك ومدى تحصيناتهم العسكرية ببلاد العرب عامة والجزيرة خاصة مع توقعات باتت مؤكدة باقتراب قيام الحرب العالمية الأولى 1914م ضد الدولة العثمانية ومعها ألمانيا، تلك الدولة المعادية للحلفاء التي انحازت للعثمانيين ووقعت معهم امتياز مشروع مد خط سكة حديد يربط الشام ببغداد وهذا ما يهدد المصالح الصهيونية بتلك المنطقة.
اتفاق الغدر: الثورة العربية 1914 ـ 1918م
تعلن أوروبا قيام الحرب العالمية الأولى – حاربت بمدافع ودبابات قديمة رديئة الصنع-وحلفائها، وينجح العثمانيون في العراق بحصار فرقة من البريطانيين، وتأتي الأوامر لـ”لورانس” بإنقاذ هذه القوات, فحاول جاهدًا عرض رشوة مقدارها مليوني جنيه من الذهب على القائد التركي خليل باشا مقابل فك الحصار، لكن كان الاستسلام قبل تسلم الرشوة.
في ذلك الوقت بالذات تظهر جهود الشريف حسين شريف مكة الذي أراد أن يصطاد في الماء العكر, فسارع بالاتصال سرًا بالقوات البريطانية ليدخل معها في اتفاق ضد الأتراك يشغلهم بثورته عن الحرب الكبرى، مقابل أن تجعله بريطانيا بعد تقسيم الغنيمة خليفة للمسلمين يستقل بالحجاز ومصر والشام، ويحكمها أبناؤه من بعده, فوجد الإنجليز ضالتهم فيه وعقدوا معه الوعود البراقة ذات الوجهين, وشجعوه على الثورة ضد الخلافة.
بعدما أعلن الشريف ثورته العربية سنة 1916م, انتشرت هذه الثورة لتشمل الحجاز والشام والعراق ومصر, فسارعت الدولة العثمانية لإنقاذ الموقف, فأصلحت سكة حديد الحجاز ليسهل لها مهمة وصول الإمدادات العسكرية.
في المقابل واصل “لورانس” مكائده فانسل إلى الحجاز واجتمع بنائب الشريف وهو ابنه عبد الله الأكبر,لكنه صرف النظر عنه إلى أخيه الأصغر فيصل الذي كان يتميز بعقل ومظهر وشجاعة, ويصلح أن يكون قائد الثورة العربية.
بعد هجوم جيش الخلافة ضد الثائرين, نظم “لورانس” قوة صغيرة ضاربة, واختار لها مجموعة من المقاتلين العرب المعروفين بجرأتهم وحنكتهم في القتال, وبعد تسليحهم بالبنادق والذخائر، ترأسهم وانطلق بهم على الجمال ومضوا عميقاً في قلب الصحراء يحمل كل منهم مؤونته الخاصة, وسرعان ما بدأوا هجماتهم على الحاميات التركية في القرى المعزولة وتطورت هجماتهم في غضون أسابيع حتى أصبحت الموانئ الصغيرة على الساحل الشرقي للبحر الأحمر تحت سيطرتهم.
الخطة الذكية
ثم سعى “لورانس” لإعداد خطة (حملة الحجاز) لتطهير الأراضي العربية من العثمانيين واشترط على الحلفاء البقاء بعيدين عن مكة والمدينة المنورة لعدم استفزاز المسلمين دينيًا، فانطلقت حملة الحجاز وقد رسمت لنفسها أن تبتدئ من المنطقة الغربية في جدة ثم ينبع فالوجه فالعقبة فدمشق فحلب فحماة.
وفي مدينة الوجه كان سقوط أول معاني التسامح والحرية التي كانت تنادي بها بريطانيا وحلفاؤها، حيث تم قتل 250 أسيرًا تركيًا بأمر من “لورانس” نفسه الذي بدأ يكشف عملته المزورة تحت طيات الكره الصليبي لكل ما هو عربي ومسلم، ثم توالت الانتصارات لهذا التحالف الشريفي الـ”لورانس”ي، دفع الكثير من القبائل للدخول مع الحلف طمعًا بالمال والجاه.
ثم قام “لورانس” بإرسال تعليماته للطائرات البريطانية بإطلاق القذائف على خط حديد الحجاز في أوقات متباعدة لإشغال العثمانيين بإصلاحه مدة أطول.
من كمين لآخر ومن عملية تفجير للقطارات إلى أخرى، كان “لورانس” يعمل جاسوساً خلف خطوط العدو, ودخل المدن التي يسيطر عليها الأتراك متخفياً بزي العرب وجمع أسراراً عسكرية قيمة كان يرسلها من فوره إلى “ألفيلد مارشال ألنبي” القائد الأعلى للقوات البريطانية في الشرق الأوسط.
وخلع الشيخ عودة ضرسه!
كان فيصل و”لورانس” يريان في العقبة مدينة هامة، فموقعها على البحر الأحمر جعل لها سهولة الوصول إلى الإمدادات القادمة من أوروبا، ولكن الطريق الذي يوصلهم إلى العقبة به قبائل عربية (خوارج على الخلافة) من سكان العقبة اعتادت السلب والنهب لمن يمر بها.
استطاع الخبيث “لورانس” استمالة هذه القبائل عن طريق إغراقهم بألوف الدنانير الذهبية, ونجح في كسب ولائهم خاصة “الشيخ عودة” زعيم قبيلة وادي سرحان، الذي وافق على التحالف معه مقابل عروض مغرية، ودلل على شدة الولاء بأنه سيخلع من فمه سنًا ذهبيًا مصنوعًا في تركيا!
أعلن الشيخ عودة الانضمام للمعسكر الثنائي ليغدو ثلاثيًا، وبدأ التحالف بالزحف من الحجاز إلى الشام لتسقط مدنها تباعًا بين أيديهم.
اكتشاف الخدعة الكبرى:
في عام 1917م تنشب الثورة الشيوعية التي قضت على النظام القيصري في روسيا، وسقطت في أيدي الثوار معاهدة سرية إسمها “سايكس بيكو” عقدت بين فرنسا وإنجلترا حول تقسيم أملاك الدولة العثمانية بعد سقوطها في الحرب العالمية الأولى.
ويصدم العرب بهذه المعاهدة ويهددون بريطانيا بالانسحاب في الحرب نحو العثمانيين ولكن للأسف فالوقت قد مضى خاصة وأن “لورانس” جاهد ليقنع العرب بأكذوبة هذه المعاهدة وعدم سريان مفعولها..
وبعد أن وضعت الحرب أوزارها ظهر المخطط الصليبي بوقوع لبنان وسوريا تحت الانتداب الفرنسي، وفلسطين تحت الحماية البريطانية، وغضب الأمير فيصل فوعده “لورانس” باعتلاء عرش سوريا بعد استيلاء الحلفاء على دمشق.
ثم تزداد الأمور تعقيدًا بصدور وعد “بلفور” (وزير خارجية بريطانيا) 1917م بجعل فلسطين وطنًا قوميًا لليهود، ويزداد العرب والمسلمون حسرة وقهرًا، فقد زرعت بريطانيا الخائنة اليهود في فلسطين وتنكرت لوعودها.
نهاية “لورانس”:
وضعت الحرب العالمية أوزارها بسقوط الدولة العثمانية وتقسيم ممتلكاتها ليعطى فيصل حكم العراق لكن دون استقلال كامل من الإنجليز، ويعطى الشريف حسين حكم منطقة الحجاز الذي لم يدم طويلاً حيث ضمها الملك عبد العزيز آل سعود في توحيده للجزيرة العربية ، أما عبد الله بن الحسين فقد استقل بالأردن، وبعد موت والده الشريف حسين سنة 1931م اغتيل عبد الله سنة1951م, وجلس بعده ابنه الأمير طلال مدة قصيرة ثم تولى بعده ابنه حسين.
أما “لورانس” الذي كان ينتظر له أن يموت بشجاعة موتة بطولية فقد مات بحادثة عارضة حين انقلبت الدراجة النارية التي كان يقودها بجنون في إحدى ضواحي العاصمة البريطانية سنة 1935م، أما الجنرال “اللمبي” وهو الحاكم العسكري البريطاني الذي كان رديفًا لـ”لورانس” عندما دخل دمشق توجه إلى قبر صلاح الدين الأيوبي قائلاً: “لقد عدنا يا صلاح الدين” .
“يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ”